الجريمة في المناطق العشوائية والتجربة المصرية في مواجهتها: رؤية تحليلية
بقلم الأستاذ الدكتور هاني جرجس عياد
أستاذ علم الاجتماع – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة الإسلامية بمنيسوتا
تُعَدّ الجريمة في المناطق العشوائية من أكثر الظواهر الاجتماعية تعقيدًا وخطورة، إذ تعكس اختلال التوازن في البناء الاجتماعي وغياب سياسات التنمية العادلة، إلى جانب تراجع آليات الرقابة الاجتماعية والمؤسسية.
فهذه المناطق التي تنشأ غالبًا على أطراف المدن أو في الهوامش الريفية تُجسِّد بيئات مضطربة تتقاطع فيها مظاهر الفقر، والحرمان المادي، والضغوط النفسية، والتفكك الأسري، والبعد عن القيم السائدة.
وهي مجتمعات تعاني من تهميش مزمن، وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة، ما يجعل الجريمة فيها ليست فعلًا فرديًّا بقدر ما هي نتاج بنية اجتماعية مشوّهة تُعيد إنتاج الانحراف وتُكرّسه باستمرار.
إن فهم الجريمة في هذه البيئات لا يمكن أن يتحقّق إلا من خلال استدعاء النظريات الاجتماعية القادرة على تحليلها في سياقها البنيوي والثقافي والنفسي.
في ضوء نظرية الأنومي، تظهر الجريمة كنتيجة مباشرة لحالة من اللامعيارية التي يعاني منها الأفراد بسبب التناقض الحاد بين الأهداف التي يُحَثّون على تحقيقها، كالنجاح الاقتصادي والمكانة الاجتماعية، وبين الوسائل المتاحة فعليًّا لتحقيقها، والتي تكون معدومة أو شديدة الندرة.
فينشأ شعور بالعجز والإقصاء، يدفع بعض الأفراد إلى تبنّي وسائل غير مشروعة لتحقيق هذه الأهداف ذاتها. وتُصبح الجريمة هنا محاولة لإعادة التوازن في مجتمع لا يعترف بحاجات المهمّشين ولا يوفّر لهم سبلًا مشروعة للإشباع.
أما من خلال نظرية الضغط العام، فإن الجريمة تُفهم باعتبارها استجابة سلوكية متطرفة لضغوط حياتية ونفسية مزمنة، تتجاوز قدرة الفرد على التحمّل.
فالفقر، والتهميش، والعنف الأسري، وانعدام الأمن النفسي والاقتصادي، كلها عوامل تُنتج شعورًا دائمًا بالإحباط واليأس، تجعل الفرد يميل إلى العنف أو السلوك الخارج عن القانون باعتباره شكلًا من أشكال التفريغ أو التعبير عن الذات. وقد تتّخذ الجريمة في هذا السياق دلالات رمزية تتجاوز الحاجة المادية لتصبح شكلًا من أشكال الاحتجاج أو إثبات الذات داخل بيئة لا تُقدّر الفرد إلا من خلال التمرّد أو السيطرة.
ومن منظور نظرية الثقافة الفرعية، تُعَدّ الجريمة تعبيرًا عن ثقافة بديلة تتشكّل داخل البيئات المهمّشة، نتيجة الإقصاء المستمر من المنظومة القيمية السائدة. إذ تَتَحوّل مفاهيم مثل الاحترام، والنجاح، والرجولة، إلى معايير يُعاد تعريفها داخل هذه الثقافات الفرعية، حيث يُنظر إلى السرقة باعتبارها “ذكاء”، وإلى العنف كوسيلة “لاسترداد الكرامة”، وتُصبح الجريمة عنصرًا من عناصر الهوية الجماعية التي تُنقَل من جيل إلى آخر.
وفق نظرية المخالطة الفاصلة، فإن السلوك الإجرامي لا يُنتج فقط من البيئة المادية، بل يُكتسب من خلال التفاعل اليومي مع جماعات تحمل قيمًا منحرفة. وفي ظل غياب القدوات الإيجابية أو المؤسسات التربوية المؤثرة، يتعلّم الأطفال والمراهقون الجريمة بوصفها سلوكًا اجتماعيًّا طبيعيًّا وفعّالًا في البقاء والتقدير. وهكذا تُرسّخ الجريمة كخيار واقعي، وتُضفى عليها شرعية ذاتية داخل الأحياء العشوائية.
أما من زاوية نظرية الصراع، فالجريمة تُشكّل انعكاسًا لحالة صراع طبقي بين فئات محرومة من الموارد والفرص، وبين منظومة تهيمن عليها الامتيازات والسلطة. وتُصبح الجريمة أداة احتجاج غير مباشر على هذا الظلم البنيوي، ومحاولة لإعادة توزيع القوة، ولو بشكل رمزي، من خلال أفعال مثل السرقة أو الاعتداء على الممتلكات، التي تُعبِّر عن غضب اجتماعي أكثر منها عن رغبة إجرامية محضة.
وفي إطار نظرية الوصم، فإن ساكني العشوائيات كثيرًا ما يُحمَّلون صورًا نمطية سلبية تسبق أفعالهم، فيُعاملون على أنهم منحرفون أو خطرون، ويُقصَون من فرص الاندماج والتعليم والعمل. هذا الوصم يتحوّل بمرور الوقت إلى هوية داخلية يتبنّاها الفرد ويُجسّدها، فيمارس الجريمة كتعبير عن الدور الذي فُرِض عليه قسرًا. وبدلًا من مقاومة الصورة، يجد نفسه مدفوعًا إلى تقمّصها.
وفي ظل ضعف الروابط الأسرية والاجتماعية، كما توضّحه نظرية الضبط الاجتماعي، تغيب لدى الفرد البنى الرادعة التي تُوجّه السلوك وتحافظ على الانضباط، فتتراجع الرقابة الذاتية والمؤسسية، ويصبح الفرد أكثر عرضة لتبني السلوك المنحرف دون شعور بالذنب أو الانتماء لقيم الجماعة.
ومن منظور التحليل النفسي، فإن الجريمة قد تكون تعبيرًا عن تراكُم مشاعر مكبوتة من الغضب، والرفض، والخوف، ناتجة عن طفولة مضطربة خالية من الاحتواء والدعم، تُحوِّل العدوان إلى سلوك خارجي موجَّه نحو الآخر أو نحو المجتمع.
كل ذلك يُشير إلى أن الجريمة في العشوائيات لا تُفسَّر من زاوية واحدة، بل هي ظاهرة متعددة الأسباب والجذور، تتقاطع فيها الضغوط الاقتصادية مثل الفقر والبطالة، مع التهميش الثقافي، والانفصال عن المنظومة القيمية، إلى جانب التراكمات النفسية التي يخلّفها الإقصاء المستمر. ولا يمكن معالجة هذه الظاهرة من خلال التدخل الأمني وحده، بل تتطلّب مقاربات شاملة ترتكز إلى العدالة الاجتماعية، وتمكين الفئات المهمشة، وتحقيق الاندماج البنيوي والثقافي والنفسي.
لقد أدرك السبد الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ بداية تولّيه المسؤولية أن العشوائيات ليست مجرد أزمة عمرانية، بل أزمة إنسانية واجتماعية تُهدّد النسيج الوطني، وتُفرز تحديات أمنية واقتصادية وثقافية. لذلك، لم يكتفِ بالتعامل مع مظاهر المشكلة، بل وجّه بإطلاق استراتيجية شاملة تستهدف اجتثاث العشوائيات من جذورها، من خلال إعادة تخطيط المناطق غير الآمنة، ونقل سكانها إلى مجتمعات متكاملة تحت مظلة الدولة، تضمن لهم الحماية الاجتماعية والعدالة المكانية، وتُعيد دمجهم في بنية المجتمع الحضري المعاصر.
وفي هذا الإطار، يُعدّ مشروع “الأسمرات” مثالًا رائدًا على هذه الرؤية الاستراتيجية، حيث لم يُصمَّم فقط لتوفير وحدات سكنية بديلة، بل ليكون مجتمعًا متكاملًا يحتوي على مدارس حديثة، ومراكز شباب، وملاعب، ودور حضانة، ومراكز تدريب مهني، ومساجد وكنائس، بما يعكس حرص الدولة على تحقيق التكامل التنموي لا مجرّد نقل السكان. وقد أُرفِق هذا المشروع ببرامج دعم اجتماعي ونفسي، تهدف إلى تأهيل السكان للانتقال السلس من بيئة الإقصاء إلى بيئة الفرص، ومساعدتهم على بناء أنماط حياة مستقرة قائمة على الإنتاج لا العنف والانحراف.
إن التجربة المصرية في التعامل مع المناطق العشوائية لم تقتصر على مشروع “الأسمرات” فحسب، بل امتدت لتشمل عددًا من المبادرات الكبرى مثل “بشائر الخير” في الإسكندرية، و”روضة السيدة” في القاهرة، و”معًا” في السلام، والتي استهدفت إحداث تحول جذري في المفهوم التقليدي للتدخل الحكومي. ف
قد انتقلت الدولة من مجرد إزالة العشوائيات إلى فلسفة إعادة التخطيط العمراني والاجتماعي الشامل، مع توفير مساكن حديثة تليق بالمواطن المصري، وتضم خدمات تعليمية وصحية وتدريبية، تُمكّن السكان من بدء حياة جديدة مستقرة ومنتجة.
وفي هذا السياق، برز اهتمام الدولة بإعادة دمج الفئات المهمشة من سكان العشوائيات في النسيج الاجتماعي العام، من خلال برامج التأهيل النفسي والدعم الاجتماعي، ومحو الأمية، وتوفير فرص العمل. كما أُدمجت برامج التمكين الاقتصادي للنساء والشباب، مما ساهم في تحويل العديد من سكان تلك المناطق من متلقين للمساعدات إلى فاعلين في مجتمعاتهم، قادرين على الإسهام في التنمية وتعزيز الانتماء الوطني.
وقد انعكست هذه الجهود في انخفاض معدلات الجريمة في بعض المناطق التي خضعت للتطوير، نتيجة استعادة الشعور بالأمان، وتوفّر الخدمات، وبناء شبكات اجتماعية جديدة أكثر استقرارًا. وأثبتت هذه التجربة أن الجريمة ليست قدرًا حتميًا في البيئات الفقيرة، بل هي نتيجة ظروف يمكن تغييرها بإرادة سياسية وبرامج تنموية مستدامة.
وتجدر الإشارة إلى أن مقاربة الدولة المصرية للعشوائيات اتخذت طابعًا حقوقيًا بامتياز، انطلاقًا من الاعتراف بحق السكن اللائق كحق دستوري، وحق كل مواطن في بيئة آمنة وخدمات أساسية. وهو ما انعكس في اعتماد معايير واضحة في تصنيف المناطق غير الآمنة، وتحديد أولويات التدخل وفقًا لدرجة الخطورة، مع احترام كرامة السكان وضمان عدم تهجيرهم دون بدائل مناسبة.
إنّ ما تحقق على أرض الواقع في مجال مواجهة ظاهرة العشوائيات في مصر يُمثّل تحولًا نوعيًّا في مقاربة الدولة لقضية كانت تُعد من أعقد التحديات الاجتماعية والعمرانية. فقد تجاوزت السياسات الحكومية الطابع التقليدي القائم على الإزالة أو الإحلال، لتتبنّى استراتيجية شاملة تُعالج الأبعاد البنيوية والثقافية والنفسية للظاهرة، وتُعيد الاعتبار لسكان هذه المناطق باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق، يستحقون بيئة سكنية آمنة، وفرصًا حقيقية للاندماج والتنمية.
وتُظهر التجربة المصرية أن الجريمة في المناطق العشوائية ليست حتمية، بل هي نتاج ظروف قابلة للتغيير من خلال سياسات اجتماعية واقتصادية منصفة، تتأسس على العدالة المجالية، والتمكين المجتمعي، والاستثمار في الإنسان. ومن هذا المنطلق، يُعدّ مشروع تطوير العشوائيات في مصر نموذجًا يُحتذى به في إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتحقيق الأمن المجتمعي من خلال أدوات التنمية لا أدوات الردع وحدها.