الإدارة الاستراتيجية والإدارة التنفيذية في قطاع الكهرباء… أين خط التماس؟
بقلم دكتور مهندس محمد سليم سالمان
إستشاري الطاقة والاستدامة / عضو المجلس العربى للطاقة المستدامة
مقدمة
في أعقاب القرار التاريخي بفصل الشركة المصرية لنقل الكهرباء عن الشركة القابضة لكهرباء مصر، كان من المتوقع أن نشهد تحركات استراتيجية جادة نحو إعادة الهيكلة وتنظيم البيت من الداخل، بما يتماشى مع متطلبات تحرير سوق الكهرباء وتعزيز كفاءته. إلا أن الواقع كشف عن تحدٍ كبير: غياب التحرك الاستراتيجي الواضح، وتداخل الأدوار بين الإدارة الاستراتيجية والإدارة التنفيذية، الأمر الذي يهدد استدامة الأداء وتحقيق الأهداف طويلة المدى.
الخط الفاصل بين الإدارة الاستراتيجية والإدارة التنفيذية
الإدارة الاستراتيجية هي البوصلة التي تحدد اتجاه الشركة على المدى الطويل، تضع الرؤية، وتحدد الأهداف، وتبني السياسات والخطط الكبرى. أما الإدارة التنفيذية فهي الذراع التي تنفذ هذه الخطط على أرض الواقع، وتعالج المشكلات التشغيلية اليومية، وتدير الموارد بما يحقق الأهداف المحددة.
عندما يختفي هذا الخط الفاصل، وينخرط صناع القرار الاستراتيجي في مهام الإدارة التنفيذية، يصبح التركيز على القضايا اليومية طاغيًا، بينما تضيع الرؤية طويلة المدى، وتتآكل القدرة على تطوير سياسات وهيكل إداري يتماشى مع متطلبات السوق.
التحدي الحالي في شركة النقل والقابضة لكهرباء مصر على حد سواء
منذ الفصل الرسمي، لم نشهد خطة هيكلية واضحة لإعادة توزيع الأدوارفى كل من شركة النقل والقابضة لكهرباء مصر، أو لتطوير هياكل تنظيمية جديدة تتناسب مع دور الشركة كمشغل مستقل للشبكة (TSO).
بدلاً من ذلك، نرى انخراط مسؤولي الإدارة العليا – مع الاحترام الكامل لهم – الذين يفترض أن يركزوا على التخطيط الاستراتيجي وبناء الهياكل التنظيمية – في متابعة المشاكل الفنية اليومية، والإشراف المباشر على فرق التشغيل والصيانة، بل وأحيانًا التدخل في التفاصيل التشغيلية.
هذا التداخل لا يؤثر فقط على كفاءة العمل اليومي، بل يعيق بناء منظومة تنظيمية مرنة تستوعب متطلبات السوق المحرر، وتمنع تضارب المصالح، وتدعم حيادية الشركة تجاه جميع المشاركين من منتجين وموزعين. تحرير سوق الطاقة وبناء الياته هو الأولوية الأولى ويجب تحديد جدول زمنى ملزم لا يزيد عن ثلاث سنوات وقد سبق ان تناولنا ذلك في مقالات عديدة .
غياب الهيكلة المؤسسية المستدامة
إعادة الهيكلة لا تعني تدوير الأفراد في وظائف مشابهة أو إجراء تغييرات محدودة في المناصب، المطلوب بوضوح هو:
• إعادة تصميم الهيكل التنظيمي ليعكس دور الشركة كمشغل محايد للسوق، بعيدًا عن تضارب المصالح.
• تعزيز استقلالية الإدارات، بحيث تتركز الإدارة الاستراتيجية على صياغة السياسات ومتابعة مؤشرات الأداء، بينما تترك التنفيذ بالكامل للإدارات الفنية المختصة.
• بناء قدرات الموارد البشرية وفق متطلبات الأدوار الجديدة، عبر التدريب وإدخال آليات تقييم موضوعية.
• تحديد قنوات اتصال واضحة بين المستويات الإدارية المختلفة لضمان تدفق المعلومات دون تداخل في الصلاحيات.
تعزيز الفصل بين الأدوار القيادية
من الركائز الجوهرية لنجاح إعادة الهيكلة وضمان الحوكمة الفعّالة، الفصل بين منصب رئيس مجلس الإدارة ومنصب العضو المنتدب. الجمع بين هذين الدورين في شخص واحد يضعف آليات الرقابة الداخلية ويخلق تضاربًا محتملاً في المصالح، خصوصًا إذا كان نفس المسئول يشغل مواقع في مجالس إدارات شركات تابعة أو مرتبطة بالشركة الأم.
الفصل بين هذه المناصب يضمن استقلالية مجلس الإدارة في رسم السياسات ومتابعة الأداء، ويترك للعضو المنتدب وفريقه التنفيذي الحرية والمرونة في التنفيذ، وهو ما يدعم التوافق والتناغم بين الإدارة الاستراتيجية والإدارة التنفيذية. كما أن منع ازدواجية العضوية في مجالس الإدارات التابعة يعزز الشفافية، ويمنع تداخل المصالح، ويدعم بناء منظومة مؤسسية صحية قادرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية طويلة المدى.
الآثار السلبية لتداخل الأدوار
عندما تغرق الإدارة الاستراتيجية في مشكلات التنفيذ:
1. غياب الرؤية طويلة المدى، وبالتالي فقدان فرص التطوير والتحسين المستمر.
2. إضعاف فرق التنفيذ التي قد تفقد استقلاليتها وقدرتها على اتخاذ القرارات السريعة.
3. هدر الوقت والموارد في معالجة الأعراض بدلاً من معالجة الأسباب الجذرية.
4. إبطاء الإصلاحات الهيكلية المطلوبة للتماشي مع متطلبات تحرير السوق.
إلى أين نتجه؟
إن النجاح في إدارة سوق الكهرباء يتطلب فصلًا واضحًا ومؤسسيًا بين من يضع السياسات ومن ينفذها.
نحتاج إلى هياكل تنظيمية جديدة تُبنى على أسس الحوكمة، وتدعم الاستقلالية والشفافية، وتضمن وجود إدارة استراتيجية قوية تركز على الأهداف الكبرى، بينما تتمتع الإدارة التنفيذية بالمرونة والكفاءة في التنفيذ.
الخاتمة
الانتقال من إدارة تقليدية إلى إدارة حديثة للسوق المحرر للكهرباء ليس مسألة تغيير أشخاص أو مسميات وظيفية، بل هو تحول مؤسسي شامل.
فقط عندما تعود الإدارة الاستراتيجية إلى موقعها الطبيعي، وتترك للتنفيذ مجاله الخاص، ويدعم ذلك فصل الأدوار القيادية، يمكننا أن نحقق استدامة الأداء ونبني مستقبلًا للطاقة في مصر قائمًا على الكفاءة، الشفافية، والمنافسة العادلة.