الميثانول منخفض الكربون ودورة في التحول الطاقي
إعداد: د. ياسر محمد بغدادي
خبير اول صناعات نفطية
في ظل التحديات البيئية المتسارعة وما يرافقها من تداعيات تغيّر المناخ، أصبح التحول نحو مصادر الطاقة النظيفة والبدائل منخفضة الانبعاثات ضرورة ملحّة لضمان مستقبل أكثر استدامة.
لم يعد النقاش العالمي يقتصر على البحث عن حلول مرحلية، بل بات التركيز على تطوير منظومة طاقية قادرة على تحقيق التوازن بين حماية البيئة وتلبية احتياجات النمو الاقتصادي.
ومن بين البدائل الواعدة التي برزت خلال السنوات الأخيرة يبرز الميثانول منخفض الكربون، سواء الأخضر أو الأزرق كأحد المسارات العملية لدفع التحول الطاقي وتعزيز الاقتصاد الأخضر.
يُسهم إنتاج الميثانول التقليدي من الفحم ” البني” أو الغاز الطبيعي ” الرمادي” في زيادة الانبعاثات العالمية بشكل ملحوظ، إذ يُقدَّر أنه مسؤول عن نحو 10% من إجمالي الانبعاثات الصادرة عن قطاع الصناعات الكيماوية على مستوى العالم.
هذه الحقائق تضعه في صميم التحدي المناخي، لكنها في الوقت ذاته فتحت الباب أمام تطوير نسخ أكثر استدامة منه.
يمثّل الميثانول الأزرق، الذي يعتمد على الغاز الطبيعي مع دمج تقنيات احتجاز الكربون وتخزينة ، حلًا انتقاليًا يخفض الانبعاثات بما يزيد عن 50% مقارنة بالميثانول الرمادي،
بينما يُعتبر الميثانول الأخضر الخيار الأكثر جدوى بيئياً على المدى الطويل، لاعتماده كليًا على مصادر الطاقة المتجددة وتحويل الكتلة الحيوية أو عبر تفاعل الهيدروجين الأخضر مع ثاني أكسيد الكربون الملتقط.
هذا التنوع في المسارات يجعل الميثانول ركيزة أساسية في أي استراتيجية للتحول الطاقي، نظرًا لمرونته في التطبيق وتكامل إنتاجه مع البنية التحتية القائمة.
لا يقل الشق الاقتصادي للميثانول منخفض الكربون أهمية عن بعده البيئي. فالتحول إلى إنتاجه يساهم في خفض التكاليف غير المباشرة المرتبطة بأضرار التلوث وتغير المناخ، ويعزز من قدرة الدول على تنويع مزيج الطاقة وتقليل الاعتماد على المصادر الأحفورية.
ورغم أن تكلفة إنتاج الميثانول الأخضر لا تزال مرتفعة نسبيًا نظرًا لاعتمادها على الكهرباء المتجددة والهيدروجين، إلا أن التوقعات المستقبلية تشير إلى تراجع كبير في هذه التكاليف مع توسع الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة وتطور تقنيات التحليل الكهربائي.
أما الميثانول الأزرق، فإنه يتيح للدول التي تمتلك احتياطيات غاز طبيعي بنية تحتية متقدمة دخول سوق الطاقة النظيفة بتكلفة أقل نسبيًا، مع تعزيز تنافسيتها على المدى المتوسط.
وبذلك، فإن الميثانول يمثل حلقة وصل اقتصادية بين الواقع الحالي المعتمد على الوقود الأحفوري والمستقبل المرتكز على الطاقة المتجددة.
يتجلى بوضوح دور الميثانول في التحول الطاقي في قطاع النقل، حيث يوفّر وقودًا منخفض الانبعاثات للنقل البحري والجوي، وهو ما يتماشى مع المبادرات الدولية مثل اتفاقية ماربول في النقل البحري، ومبادرة CORSIA “خطة التعويض عن الكربون وخفض الانبعاثات في قطاع الطيران الدولي” في قطاع الطيران المدني.
كما أن التجارب العملية في بعض الدول، مثل الصين التي اعتمدت مزجه مع الغازولين بنسب مختلفة، أثبتت نجاحه في تقليل التلوث الحضري وتحقيق وفورات اقتصادية. وفي الصناعات البتروكيميائية، يمثل الميثانول مادة أولية أساسية تدخل في إنتاج البلاستيك والألياف والراتنجات، مما يعزز من دوره كمكوّن محوري في الاقتصاد الدائري للمواد والطاقة.
إن توظيفه في هذه القطاعات لا يساهم فقط في خفض الانبعاثات، بل يفتح أيضًا فرصًا اقتصادية واستثمارية ضخمة على المستويين الإقليمي والعالمي.
يشكل الميثانول منخفض الكربون في الدول العربية، نافذة استراتيجية لتعزيز حضورها في أسواق الطاقة النظيفة العالمية.
ففي السعودية والإمارات وسلطنة عُمان، تمثل المشاريع العملاقة لإنتاج الهيدروجين الأخضر قاعدة راسخة لتطوير إنتاج الميثانول الأخضر، في حين يتيح توفر الغاز الطبيعي والبنية التحتية المتقدمة في دول مثل قطر والسعودية فرصًا واعدة للتوسع في إنتاج الميثانول الأزرق.
أما مصر، فهي تعمل على بلورة مشروعات جديدة في هذا المجال، مستفيدة من موقعها الجغرافي المتميز وقدراتها في مجالات الغاز الطبيعي والطاقة المتجددة، مما يؤهلها لتكون أحد المراكز الإقليمية الرائدة في إنتاج وتصدير الميثانول منخفض الكربون.
وتشير التقديرات إلى أن المنطقة العربية قد تسهم بما يصل إلى 30% من الإنتاج العالمي بحلول منتصف القرن، وهو ما يعزز مكانتها كفاعل رئيسي في مشهد التحول الطاقي العالمي.
وانطلاقًا من هذه المؤشرات، لا يُنظر إلى الميثانول منخفض الكربون باعتباره مجرد بديل نظيف للطاقة، بل كأداة اقتصادية واستراتيجية تدعم الانتقال نحو منظومة طاقة أكثر استدامة. فمن خلال مساهمته في خفض الانبعاثات، وتعزيز أمن الطاقة، وتوفير بدائل اقتصادية قابلة للتطبيق في قطاعات النقل والصناعة، يرسخ الميثانول مكانته كأحد الأعمدة الرئيسية للتحول الطاقي العالمي. ومع استمرار تطور التقنيات وتنامي الدعم الاستثماري والسياسي، يبرز هذا الوقود الواعد كمحور أساسي في بناء اقتصاد عالمي منخفض الكربون يوازن بين متطلبات التنمية وحماية البيئة.