دور الذكاء الاصطناعي في تشكيل مستقبل الاستدامة
بقلم الدكتور مهندس / إبراهيم حمد الهنائي
عميد برنامج البحرية والأمن
نائب الرئيس بالإنابة – تكنولوجيا المعلومات
مركز التفوق للأبحاث التطبيقية والتدريب – كليات التقنية العليا
دولة الإمارات العربية المتحدة
أغسطس 2025
يشكل الذكاء الاصطناعي اليوم ثورة تقنية غير مسبوقة تمتد آثارها إلى مختلف جوانب الحياة، حيث بات يُنظر إليه كأحد أهم الأدوات التي يمكن أن تسهم في إعادة تشكيل ملامح المستقبل الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
وبينما يتعامل العالم مع التحديات المتزايدة المرتبطة بالتغير المناخي ونضوب الموارد الطبيعية، أصبح من الواضح أن للذكاء الاصطناعي دوراً محورياً في دعم مبادرات الاستدامة وتحقيق التوازن بين متطلبات التنمية وحماية البيئة. ومع ذلك، فإن هذا الدور لا يخلو من التناقضات، إذ يكشف عن وجهين متباينين:
أحدهما يُبشر بآفاق أوسع للاستدامة،
والآخر يثير القلق من الأعباء البيئية الضخمة الناجمة عن التوسع المتزايد في استخدام هذه التكنولوجيا.
فعلى مستوى الأثر البيئي المباشر، تؤكد الدراسات أن مراكز البيانات التي تعتمد عليها تقنيات الذكاء الاصطناعي تُعد من أكثر المنشآت استهلاكاً للطاقة والمياه في العالم. فقد أشارت تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن بعض هذه المراكز قد يستهلك ما يقارب خمسة ملايين جالون من المياه يومياً للتبريد (UNEP, 2023).
كما توقعت صحيفة فاينانشال تايمز أن يقفز استهلاك الطاقة العالمي لمراكز البيانات من نحو 415 تيراواط ساعة في الوقت الراهن إلى 945 تيراواط ساعة بحلول عام 2030، وهو ما يعادل تقريباً الاستهلاك الكلي للطاقة في دول صناعية متقدمة مثل اليابان أو ألمانيا (Financial Times, 2023). وتزداد خطورة هذه الأرقام إذا ما علمنا أن تدريب نموذج لغوي ضخم واحد مثل GPT-3 يولد انبعاثات كربونية تعادل الانبعاثات الصادرة عن تشغيل 123 سيارة لمدة عام كامل (Wikipedia, 2024). وإلى جانب ذلك، تُشير التقديرات إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يسحب ما بين 4.2 و6.6 مليار متر مكعب من المياه بحلول عام 2027 (Wikipedia, 2024)، وهو ما يمثل ضغطاً إضافياً على الموارد المائية العالمية التي تعاني أصلاً من الإجهاد.
أما في جانب النفايات الإلكترونية، فإن الاعتماد على أشباه الموصلات المتقدمة والشرائح الإلكترونية المعقدة التي تُشغل أنظمة الذكاء الاصطناعي يساهم في تسريع وتيرة تراكم النفايات الإلكترونية. وتشير التوقعات إلى أن مساهمة الذكاء الاصطناعي في هذه المشكلة قد تصل إلى ما بين 1.2 و5 ملايين طن متري بحلول عام 2030، أي نحو 12٪ من إجمالي النفايات الإلكترونية على مستوى العالم (Wikipedia, 2024). وهذه المشكلة مرتبطة أيضاً بعملية التعدين المكثف لاستخراج المعادن النادرة مثل الليثيوم والكوبالت والنيوديميوم، التي تدخل في تصنيع البطاريات والمعالجات الدقيقة. هذه العمليات لا تؤثر فقط على البيئة من حيث تدمير المواطن الطبيعية، بل تؤدي كذلك إلى انبعاثات إضافية لغازات الاحتباس الحراري وتلوث المياه والتربة.
ورغم كل هذه المخاطر، فإن الذكاء الاصطناعي يقدم إمكانات واسعة لدعم الاستدامة إذا ما استُخدم بطريقة مسؤولة. ففي مجال الصناعة، تُظهر الدراسات أن سلاسل القيمة الصناعية تعاني من هدر ضخم في الموارد قد يصل إلى خمسة أضعاف المستوى الأمثل،
وهنا يبرز دور الخوارزميات الذكية في تحسين العمليات وتقليل هذا الفاقد. فقد ساعدت تقنيات الذكاء الاصطناعي مثلاً في تقليل استهلاك الطاقة في مراكز البيانات بنسبة تصل إلى 40٪ عبر أنظمة التبريد الذاتي والتعلم الآلي.
(Financial Times, 2023).
وفي قطاع الزراعة، تساهم أنظمة الري الذكية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي في ترشيد استخدام المياه بنسبة قد تصل إلى 30٪، وذلك من خلال التنبؤ بمستويات رطوبة التربة وظروف الطقس (Honeywell, 2020).
هذه النظم تُسهم أيضاً في تحسين الإنتاج الزراعي عبر التنبؤ بمواعيد الحصاد المثلى وتقليل الهدر الغذائي الناتج عن التوزيع غير الفعال.
كما يبرز الذكاء الاصطناعي كعامل أساسي في تحسين استقرار وكفاءة الشبكات الكهربائية. فقد طبقت شركة Eletrobras في البرازيل نظاماً متطوراً يعتمد على الذكاء الاصطناعي لمراقبة شبكة الكهرباء واكتشاف الأعطال والاستجابة لها بشكل لحظي، وهو ما ساعد على تحسين موثوقية الشبكة وتقليل الفاقد (Reuters, 2025a). وتعمل شركات عالمية مثل ADNOC على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تحسين العمليات التشغيلية وخفض الانبعاثات الكربونية من قطاع الطاقة الأحفورية. (Financial Times, 2023).
وإلى جانب ذلك، يشكل الذكاء الاصطناعي أداة فعالة في مجال مراقبة البيئة والتغير المناخي.
فقد بدأ برنامج الأمم المتحدة للبيئة باستخدام الذكاء الاصطناعي لرصد تسربات غاز الميثان، أحد أخطر غازات الاحتباس الحراري، وتتبع أنشطة إزالة الغابات عبر صور الأقمار الصناعية (UNEP, 2023).
ويُستخدم أيضاً في التنبؤ بالكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والعواصف عبر تحليل كميات ضخمة من البيانات المناخية. وعلى صعيد البنية العمرانية، أسهم الذكاء الاصطناعي في تصميم مبانٍ تعتمد على مواد حيوية صديقة للبيئة تقلل الانبعاثات الكربونية بنسبة تصل إلى 50٪ مقارنة بالمباني التقليدية (Reuters, 2025b). هذه الحلول تندرج ضمن ما يُعرف بمفهوم “المدن الذكية” التي تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي لإدارة استهلاك الطاقة والإنارة والتهوية بطرق أكثر كفاءة.
اقتصادياً، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيات الاستثمار المستدام. فقد أظهر استطلاع عالمي أجرته PwC أن 64٪ من المستثمرين حول العالم يدعمون زيادة الإنفاق على خفض الانبعاثات الكربونية، ويرون في الذكاء الاصطناعي أداة رئيسية لتحليل البيانات ودعم القرارات الاستثمارية المستدامة (ESG Dive, 2024). وتدفع هذه التوجهات إلى بروز مفهوم “الذكاء الاصطناعي الأخضر” الذي يركز على تطوير خوارزميات ونماذج أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة، حيث تشير بعض الأبحاث إلى إمكانية خفض الانبعاثات الناتجة عن النماذج بنسبة تفوق 50٪ من خلال تصميمات أكثر وعياً بالطاقة.(Schwartz et al., 2023).
أما على الصعيد السياسي والتشريعي، فقد بدأت عدة دول في سن أطر تنظيمية لضمان استدامة الذكاء الاصطناعي. ففي الولايات المتحدة تم إصدار “قانون تأثيرات الذكاء الاصطناعي البيئية لعام 2024” بهدف دراسة البصمة البيئية لهذه التكنولوجيا ووضع آليات للحد من آثارها السلبية (Wikipedia, 2024).
وفي الاتحاد الأوروبي، جرى دمج الذكاء الاصطناعي في مبادرة “الصفقة الخضراء” كأداة لتحقيق أهداف المناخ من خلال مشاريع مثل “مساحة البيانات الخضراء” (Wikipedia, 2024). كما أطلقت الهند تحدي “Sustainovate 2025” لدعوة المبتكرين إلى تطوير حلول بيئية مستدامة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي (Times of India, 2025).
انطلاقاً من كل ما سبق، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يمثل فرصة تاريخية لإعادة توجيه مسار التنمية نحو مستقبل أكثر استدامة، لكنه في الوقت نفسه يشكل تهديداً إذا لم يُدار بشكل عقلاني. إن التحدي الأكبر لا يكمن في تطوير تقنيات جديدة فحسب، بل في وضع استراتيجيات متكاملة تجمع بين الابتكار والمسؤولية، بحيث يتم تعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي الأخضر، وتشجيع الاستثمارات المسؤولة، وسن التشريعات البيئية الصارمة التي تضمن توازناً بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة. إن نجاح هذه الجهود سيحدد إلى حد بعيد ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيغدو محركاً أساسياً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، أم عبئاً إضافياً يزيد من تعقيد الأزمات البيئية العالمية.
قائمة المراجع
• AP News. (2024). AI and Jevons Paradox. Retrieved from apnews.com
• ESG Dive. (2024). How AI is shaping the future of sustainability. Retrieved from esgdive.com
• Financial Times. (2023). How AI might save more energy than it soaks up. Retrieved from ft.com
• Honeywell. (2020). How AI is powering sustainability. Retrieved from honeywell.com
• Reuters. (2025a). Eletrobras partners with C3 AI to modernize Brazil’s power grid. Retrieved from reuters.com
• Reuters. (2025b). The AI race is on the wrong track. Here’s how to fix it. Retrieved from reuters.com
• Schwartz, R., Dodge, J., Smith, N., & Etzioni, O. (2023). Green AI. arXiv preprint arXiv:2301.11047. Retrieved from arxiv.org
• Times of India. (2025). Sustainovate 2025: AI-powered environmental solutions. Retrieved from timesofindia.indiatimes.com
• UNEP. (2023). AI has an environmental problem. Retrieved from unep.org
• Wikipedia. (2024). Environmental impact of Artificial Intelligence. Retrieved from wikipedia.org