الدراما المصرية والمشكلات الزوجية: قراءة في التأثيرات الاجتماعية والنفسية
كتبت ا.د هبة الله السمري
عميد كلية الأعلام و اللغات التطبيقية جامعة النهضة و استاذ الإعلام بجامعة القاهرة
عضو اللجنة العلمية مجلس الاسرة العربية للتنمية
تُعتبر الدراما المصرية من أبرز أشكال التعبير الثقافي والاجتماعي، وقد تجاوزت منذ سنوات طويلة حدود الترفيه إلى أن أصبحت وسيلة للتأثير في الوعي الجمعي وصناعة النقاشات المجتمعية.
ولأن الأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع، فقد احتلت المشكلات الزوجية مكانة بارزة في السرد الدرامي، باعتبارها انعكاسًا لأزمات يعيشها الناس يوميًا، وصدى لصراعات بين الحب والخذلان، وبين الاستقرار والانهيار. وعلى مدى الأعوام الأخيرة، خصوصًا بين عامي 2020 و2025، ظهرت موجة من الأعمال المصرية التي تناولت هذه القضايا بجرأة أكبر وبعمق نفسي واجتماعي أوضح.
من الأمثلة التي تركت أثرًا واضحًا مسلسل نصيبي وقسمتك، الذي اعتمد على أسلوب الحكايات القصيرة المتنوعة، حيث تناول في كل قصة أزمة مختلفة مثل الخيانة الزوجية أو تدخل الأهل أو غياب التفاهم.
وقد سمح هذا التنوع بأن يضع المشاهد أمام أكثر من نموذج للحياة الزوجية، وكأنه يقف أمام مرآة يرى فيها وجوهًا متعددة لواقعه.
وفي عام 2022، قدّم مسلسل فاتن أمل حربي نموذجًا مهمًا لمعالجة المشكلات الزوجية ضمن إطار قانوني، إذ سلط الضوء على التحديات التي تواجه المرأة بعد الطلاق، خاصة في ما يتعلق بحق الحضانة والنفقة.
لم يكن المسلسل مجرد حبكة درامية، بل تحوّل إلى خطاب مجتمعي أثار الجدل حول قانون الأحوال الشخصية وفتح الباب لمطالبات بإصلاحه. وهنا تلتقي الدراما بالواقع لتصبح محفزًا للنقاش الاجتماعي والتغيير القانوني.
أما مسلسل الهرشة السابعة، فقد لامس مرحلة دقيقة في الزواج، إذ تناول حياة الزوجين بعد مرور سنوات على الارتباط، وما يرافقها من ضغوط يومية، وتراجع في الشغف، واكتئاب ما بعد الولادة. وقدّم العمل صورة دقيقة للأنماط النفسية التي يتحدث عنها علماء النفس مثل الدفاعية والتجاهل والاحتقار، وهي سلوكيات يُنظر إليها على أنها علامات خطيرة تُنذر بتآكل العلاقة العاطفية إن لم يتم التعامل معها بحوار ناضج ووعي متبادل.
وفي رمضان 2023، ظهرت أعمال عدة تناولت وجوهًا أخرى للمشكلات الزوجية. ففي مذكرات زوج طُرحت أزمة منتصف العمر لدى الرجل، وتأثير الملل والروتين على استقرار الأسرة. بينما قدم علاقة مشروعة صورة لانهيار علاقة مستقرة بسبب الخيانة، كاشفًا عن حجم الجروح النفسية التي قد يتركها مثل هذا الفعل في وجدان الزوجين. أما مسلسل ضرب نار فقد ركّز على الصراعات التي تتفاقم بعد الزواج، وكيف تتداخل الخلافات الشخصية مع الضغوط الخارجية، في مشهد يعكس تعقيد الحياة الزوجية في الواقع.
وفي السياق نفسه، قدّم مسلسل Finding Ola (2022) بطولة هند صبري قراءة مختلفة، إذ عالج تجربة الانفصال من منظور إنساني يُبرز كيف يمكن للأزمة أن تكون بداية جديدة. تابع المشاهد رحلة البطلة في إعادة بناء حياتها بعد الطلاق، وهو ما جعل العمل أقرب إلى تجربة نفسية جماعية للمشاهدين الذين رأوا في القصة صدى لتجاربهم الشخصية. هنا، تُفعل الدراما مفهوم “العلاقات الباراسوشيال”، حيث يندمج الجمهور نفسه مع الشخصيات الدرامية ويشعر أنها تجسد تجاربهم الخاصة.
ومع قدوم رمضان 2025، طرح مسلسل وتقابل حبيب مسألة الخيانة الزوجية وتأثيرها المدمر على الأسرة، بينما قدّم حسبة عمري صورة للعلاقات الطويلة الأمد وكيف يمكن للروتين أن يتحول إلى صراع عاطفي بعد سنوات من الارتباط. وفي جانب آخر، جاء مسلسل عقبال عندكوا ليعرض بصورة كوميدية ساخرة صعوبة التفاهم الزوجي وسط تدخلات العائلة وضغوط المجتمع، ما يؤكد أن الدراما قادرة على المزج بين الكوميديا والتراجيديا في تصوير الأزمات الأسرية.
ومن بين الأعمال الأكثر إثارة للجدل الاجتماعي، برز مسلسل تحت الوصاية (2023) بطولة منى زكي، الذي تناول قضية المرأة التي تواجه بعد وفاة زوجها قيود قانون الوصاية على أبنائها، فيضطرها الواقع إلى مواجهة صعوبات قاسية لإعالة أسرتها والعمل في مهنة صيد السمك. لم يتوقف أثر هذا العمل عند حدود الشاشات، بل تجاوزها ليطلق جدلًا مجتمعيًا واسعًا حول قانون الوصاية في مصر، ويحفز دعوات حقيقية لتغييره بما يضمن حقوق النساء بعد وفاة أزواجهن. وهكذا أثبتت الدراما قدرتها على الانتقال من تصوير الأزمة إلى المساهمة الفعلية في تغيير التشريعات.
من منظور علم النفس، فإن هذه الأعمال تعكس بوضوح السلوكيات التي تُعد مؤشرات خطيرة على انهيار العلاقات، مثل الانتقاد والدفاعية والتجاهل والاحتقار. هذه السلوكيات، إذا لم يتم التعامل معها عبر الحوار أو طلب المساعدة المتخصصة، تتحول تدريجيًا إلى عوامل تهدد استقرار العلاقة الزوجية. ويشير علماء النفس والاجتماع إلى أن خطورة بعض الأعمال الدرامية تكمن أحيانًا في تقديم الحلول وكأنها لحظية أو سهلة، مما قد يزرع أوهامًا لدى المشاهدين، بينما الواقع أكثر تعقيدًا ويتطلب جهدًا وصبرًا ودعمًا نفسيًا طويل المدى. ومع ذلك، فإن الأعمال التي تُبرز الأزمة في صورتها الممتدة والمعقدة، مع التركيز على الحوار والتفاهم، تُساهم بشكل أكبر في رفع الوعي المجتمعي وتشجيع النقاش البنّاء.
خلاصة القول أن الدراما المصرية الحديثة كشفت عن قدرتها المزدوجة على أن تكون مرآة تعكس واقع الزواج في المجتمع، وأداة لصياغة هذا الواقع ودفعه نحو التغيير. فهي من جهة تعرض الأزمات الأسرية بمستوى من الصدق يسمح للمشاهد بالتعاطف والتفكير في حياته الشخصية، ومن جهة أخرى تتحول إلى قوة اجتماعية قادرة على إطلاق حوارات عامة والمطالبة بإصلاحات تشريعية، كما حدث مع فاتن أمل حربي وتحت الوصاية. إن نجاح الدراما في الإسهام الإيجابي يتوقف على قدرتها على الموازنة بين الواقعية الفنية والمسؤولية الاجتماعية، وبين الإثارة الدرامية والعمق التحليلي. وعندما تحقق هذا التوازن، فإنها تصبح أكثر من مجرد ترفيه، بل خطابًا ثقافيًا ونفسيًا يُسهم في تثقيف المجتمع وتغيير واقعه.