الغسيل الأخضر Green Washing: نقطة سوداء في تاريخ الاستدامة
كتب د. محمود عبد اللطيف
خبير واستشاري بيئي ورئيس لجنة البيئة بالاتحاد بفرع الدقهلية.
مدقق بصمة كربونية
الملخص
يعكس الغسيل الأخضر Green Washing كمصطلح سوء استخدام الشركات والمؤسسات المختلفة للممارسات البيئية لأغراض تسويقية فقط مدعية التزامها بالاشتراطات واللوائح البيئية، وينطوي هذا الأمر على خطر جسيم يتمثل في تهديد مصداقية المساعي البيئية والتأثير على اختيارات المستهلكين.
حيث يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل شامل لهذه الظاهرة من خلال استكشاف أصولها النظرية، دوافعها وانعكاساتها الاقتصادية والأخلاقية. كما يتناول واقع انتشارها في الأسواق المختلفة عبر بيانات موثّقة من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأستراليا، وتسعى إلى تقييم الإطار التنظيمي الدولي في ضوء التقنين الجديد مثل توجيه الاتحاد الأوروبي 2024/825 للبرلمان الأوروبي والمؤرخ بتاريخ 28 فبراير 2024 م الذي ينص على تعديل التوجيهات 2005/29/EC و2011/83/EU فيما يتعلق بتمكين المستهلكين من الانتقال الأخضر من خلال حماية أفضل ضد الممارسات غير العادلة ومن خلال توفير معلومات أفضل، وكذلك فيما يتعلق بلائحة البرلمان الأوروبي Green Claims Directiveوالتي تتعلق بمكافحة عمليات الغسيل الأخضر والتاكد من الادعاءات البيئية التي تقدمها الشركات دون أسس علمية. بناءً على ذلك، يقدم المقال توصيات تعزز الشفافية والثقة في الادعاءات البيئية من خلال استخدام معايير ISO وعمليات التحقق المختلفة. كما يسعى المقال إلى خدمة صناع القرار والشركات والمستهلكين الراغبين في دعم بيئة تجارية أمينة ومستدامة.
مقدمة
في خضم التحول التدريجي نحو الاقتصاد منخفض الكربون، ظهر مصطلح الغسيل الأخضر كأحد أبرز التحديات التي تواجه هذا التحول. ويتجسد هذا التحدي في الشعارات البيئية الفارغة التي تعطي انطباعًا زائفًا بأداء بيئي يستند إلى أسس تسويقية لا أكثر.
ويعد أول من تبنى هذا المفهوم هو العالم البيئي جاي ويستر فيلد عام 1986، ويشير هذا المصطلح إلى ممارسة الغش في الترويج للمنظمة أو الشركة باعتبارها صديقة للبيئة، وبالتالي ، فإن الغسيل الأخضر هو نشر كاذب أو معلومات خادعة تتعلق بالاستراتيجيات والأهداف والدوافع والإجراءات البيئية للمؤسسة بخلاف مما هي عليه في الواقع، كما أن تبني المؤسسات لهذه الممارسات لا يترتب عليه عادة تحقيق تحسينات ملموسة في الأداء البيئي، مما ينطوي على فقدان المصداقية ويؤثر على ثقة المستهلك وعلى العدالة التنافسية بين كافة المؤسسات، بل قد يصل إلى تهديد تحوّلنا الجماعي نحو أنماط استهلاك وإنتاج غير عادلة ولا تحقق الغرض من الجهود المبذولة من كافة الحكومات وصناع القرار نحو التحول التدريجي للاقتصاد الأخضر والمساهمة في حل مشكلة تغير المناخ.
وفي سياق متصل، حذّر الدكتور محمود محيي الدين، رائد المناخ لدى رئاسة الجمهورية المصرية خلال مؤتمر قمة الأطراف COP 27 والمقام بشرم الشيخ في مصر، من أن بعض الشركات والدول قد تقدم تعهدات بيئية زائفة في شكل “الغسيل الأخضر”، مؤكدا ضرورة أن تشمل التمويلات المعايير الدولية لكي تحقق نتائج فعلية. كما يؤكد البنك المركزي المصري على أن ممارسة الغسيل الأخضر في القطاع المصرفي والمالي هو عمل من أعمال نقل المعلومات إلى الجمهور الذي يعتبر ظاهرًا ومضمونًا تحريف للوقائع والحقيقة، من أجل أن تظهر المؤسسة ملتزمة بيئيًا أمام عملائها والمجتمع ومن خلال ما سبق يتضح أن مصطلح الغسيل الأخضر ينتشر في كثير من المجالات، ومن هنا تكمن مشكلة المقال في زيادة انتشار عملية الغسيل الأخضر في الأسواق العالمية، ومدى كفاية الاستجابة التنظيمية لمنع انتشاره. لذلك يهدف هذا المقال الى الإجابة على الأسئلة التالية: كيف يُعرف الغسل الأخضر من منظور نظري؟ ما مدى انتشاره في الفترة من 2023–2025؟ كيف تتعامل الجهات التشريعية المختلفة معه؟ وما المقاربات الممكنة لتعزيز مصداقية الرسالة البيئية؟
يبنى هذا المقال على ثلاثة مكونات مترابطة:
أولاً، تعريف الظاهرة وتطورها.
ثانياً، النماذج النظرية التي تفسر دوافع الغسيل الأخضر.
ثالثًا، تصنيف أنماط الغسل والأبعاد الأخلاقية والقانونية المرتبطة بها.
تعريف الظاهرة وتطورها
الغسيل الأخضر هو تقديم معلومات مشوّشة أو مضللة حول الأداء البيئي لمنتج أو مؤسسة أو نشاط صناعي، بهدف بناء صورة “خضراء” دون قيام فعلي بتحسين أثر بيئي حقيقي، حيث نشأت التسمية منذ بدايات القرن الحادي والعشرين مع تصاعد الوعي البيئي وانطلاق التسويق المستدام، حيث لاحظ الباحثون أن بعض الجهات تلجأ إلى إعلانات تُظهر وجهها البيئي بينما تستمر في ممارسات ضارة بالبيئة مخالفة لما تعلنه من ممارسات.
كما تنوعت أساليب الغسيل الأخضر التي تشمل الادعاءات العامة، التعتيم، اختزال غطاء من دورة حياة المنتجات، ومزاعم الحياد الكربوني غير المدعومة بأسس علمية أو تنظيمية. وتعددت النظريات والآراء التي توضح سبب قيام بعض الشركات بهذه الظاهرة ومن هذه النظريات ما يلي:
النماذج النظرية المفسرة لظاهرة الغسل الأخضر
تقدم نظريتا “المسؤولية الاجتماعية المؤسسية” و”شرعية المؤسسة (Legitimacy Theory)” آليات تفسير لهذا السلوك. الأولى تفترض أن الشركات تقوم بالغسل الأخضر لحماية صورتها الاجتماعية والامتثال لتوقعات أصحاب المصلحة، بخاصة عندما يكون التحول الحقيقي متطلبًا لاعتماد تقنيات أو سياسات مرتفعة التكلفة. أما شرعية المؤسسة، فتؤكد أن المنظمات تسعى إلى ملاءمة تصورات الجمهور وتحقيق قبول اجتماعي، حتى لو كان ذلك عن طريق ادعاءات غير قائمة على حقائق. وتعزز هذه النماذج فهم دوافع الغسل الأخضر في ضوء ضغوط السوق والنظام المتغير للابتكار والتشريعات. وتختلف أنماط الغسل الأخضر حسب الهدف التي تسعى المؤسسة الى تحقيقه،
ومن هذه الأنماط:
تصنيف أنماط الغسل الأخضر
يُعد التمييز بين الأنماط التي تقوم بها المؤسسات والشركات لظاهرة الغسل الأخضر أمرًا محوريًا لفهم الظاهرة:
• الادعاءات العامة الغامضة دون أدلة محددة أو بيانات قابلة للتحقق (مثل “مصطلح صديق للبيئة”) والذي تم انتشاره على مدى واسع بين كثير من الشركات والمصنعين.
• التعتيم وتغيير المصطلحات التي تؤدي إلى الازدواجية في فهم الهدف.
• التركيز الانتقائي على جزء معين من المنتج أو الدورة البيئية (مثل التغليف فقط)، مع التستر على إجمالي الأثر البيئي عن طريق تقسيم العملية الإنتاجية الى أجزاء أصغر والالتزام بالممارسات البيئية بجزء صغير من دورة حياة المنتج مما يعد تحايلا على اختيارات المستهلكين.
• ادعاءات الحياد الكربوني عبر التعويضات دون تقليل فعلي للانبعاثات، وهو ما تستهدفه معايير ISO 14068 وقوانين مثل قانون الإفصاح للشركات AB 1305 وتبادل أسهمها في سوق الكربون الطوعي بكاليفورنيا في الولايات المتحدة.
• الاستخدام الخاطئ لملصقات “داخلية” أو شعارات منظمة غير معتمدة.
وتشكل الممارسات الخادعة نوعًا من الخروج على مبادئ الإنصاف والتنافس الشريف بين الشركات، إذ تحرّف اختيار المستهلك، وتنال من رغبة المؤسسات الجادة في المنافسة البيئية.
انتشار ظاهرة لغسل الأخضر : (2020–2025)
تكشف المعطيات التجريبية المتاحة خلال الأعوام الأخيرة عن ظاهرة واسعة الانتشار ومتعددة الأوجه. ففي الاتحاد الأوروبي، أظهرت مراجعات المفوضية الأوروبية لعينة من الادعاءات البيئية أن 53% من المطالبات كانت فضفاضة أو مضلِّلة أو غير مؤسسة، وأن 40% منها افتقرت إلى أي دليل داعم؛ كما سجّلت المفوضية وجود 230 ملصق استدامة وقرابة 100 ملصق خاص بالطاقة الخضراء داخل السوق الأوروبية، مع تباينات كبيرة في متطلبات الشفافية وآليات التحقق، وهو ما يغذي بيئة خصبة للتضليل الرقمي والملصقات غير القابلة للتحقق العملي، وتتفق هذه النتائج مع جهد دولي أوسع قادته الشبكة الدولية لسلطات حماية المستهلك ICPEN، حيث خلصت عملية مسح عالمية لمئات المواقع الإلكترونية إلى أن 40% من الادعاءات البيئية على الإنترنت قد تكون مضلِّلة، بسبب استخدام لغة مبهمة مثل “صديق للبيئة” أو “مستدام” دون تفسير، أو إطلاق أوصاف “طبيعي” بلا معيار محدد. هذه النتيجة، على قدمها نسبيًا، لا تزال تُستخدم كمرجع دال على نمط ادعاءات متكرر ورسوخ ممارسات تضليلية في المشهد الرقمي العالمي. ويؤكد الأمين العام للمنتدى العربي للتنمية والبيئة (أفد) أن الغسل الأخضر هو نوع من الاحتيال والتضليل حيث أوضح أن عبارة ” مصنوع من مواد معادة التدوير ” والموضوعة على أحد الملابس الرجالية ، بعد التأكد اتضح أن المقصود من جملة مصنوع من مواد معادة التدوير هو الملصق الصغير الذي يكتب عليه بيانات المنتج وليس المنتج نفسه.
وفي أستراليا، أجرى جهاز حماية المنافسة والمستهلكين (ACCC) مسحًا واسعًا لادعاءات الاستدامة لدى 247 نشاطًا تجاريًا؛ وأظهرت النتائج أن 57% من هذه الأنشطة قدّمت ادعاءات “مقلقة” بشأن الاعتمادية البيئية لتسويقها ومنتجاتها. وقد برزت قطاعات مستهدفة مثل مستحضرات التجميل والملابس والأغذية والمشروبات، مع إعلان الهيئة عن نيتها تشديد التوجيهات والإنفاذ ضد الممارسات المضللة. يكتسب هذا المثال أهميته لأنه يُظهر كيف تتجلى الظاهرة في أسواق متقدمة، وكيف تتحرك السلطات باتجاه توصيف إجرائي أدق للادعاءات المقبولة.
على المستوى المقارن، أصدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في 2025 م ورقة سياسات ترسم مشهدًا مركّبًا يتضمن تزايد اهتمام المستهلك بالمنتجات “الخضراء”، واتساع نطاق السلع والخدمات المصحوبة بادعاءات بيئية، وتنامي الأضرار الناجمة عن الادعاءات الكاذبة أو غير المثبتة. وتبرز الوثيقة اتجاهًا دوليًا لتشديد الحوكمة عبر أدوات إنفاذ وتعاون عابر للحدود، وتربط بين رفاه المستهلك وثقته والسلوك البيئي المسؤول للمؤسسات. ويمكن استنتاج أن ثمة فجوة مزمنة بين الإقبال التسويقي على لغة الاستدامة وبين قدرة الأنظمة القائمة على ضبط الادعاءات وتحويلها إلى التزامات قابلة للقياس والتحقق. وتؤكد الأرقام من الاتحاد الأوروبي وICPEN وACCC والبنك المركزي المصري وقطاعات عربية وإقليمية أخرى أن المشكلة ليست محصورة بقطاع بعينه أو نطاق جغرافي محدد، بل هي نمط اتصال تسويقي عابر للقطاعات والمنصات الرقمية.
المشهد التنظيمي والمعياري: أوروبا، الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، وأستراليا
شهد الإطار التنظيمي الأوروبي تحولات نوعية بين 2024 و2025. فقد اعتُمدت التوجيهية (EU) 2024/825 بشأن تمكين المستهلكين من الانتقال الأخضر عبر تعديل توجيهات الممارسات التجارية غير العادلة وحماية المستهلك، لتجريم طيف واسع من الممارسات المرتبطة بالادعاءات البيئية المضللة، بما يشمل حظر الادعاءات المبهمة، وتقييد الإشارات التي تعتمد فقط على التعويضات الكربونية دون تخفيضات فعلية، وإبراز متطلبات الإفصاح حول جودة وإصلاح المنتجات. دخلت التوجيهية حيّز النفاذ في 26 مارس/آذار 2024 مع إلزام الدول الأعضاء بالتنفيذ بحلول 27 مارس/آذار 2026، ما يرسخ إطارًا عامًا ضد الغسل الأخضر. وكذلك كان من المرتقب أن تستكمل المنظومة الأوروبية هذا الإطار بتوجيهية أكثر تخصّصًا تُعرف باسم Green Claims Directive، تُعنى بإثبات الادعاءات البيئية التفصيلية والتحقق منها عبر طرف ثالث. إلا أن المشهد السياسي تبدّل في يونيو 2025 م، عندما توقفت المفاوضات وأُعلن تعليق المسار التشريعي بسبب مخاوف من الأعباء التنظيمية على المؤسسات الصغيرة جدًا (الميكرو)، وتباينات في تقدير الكلفة/المنفعة. هذا التعليق عكس توتراتٍ سياسية واقتصادية داخل الاتحاد بشأن وتيرة وعبء التحوّل التنظيمي، وترك فجوة في تأسيس قواعد موحدة للتحقق من الادعاءات التفصيلية للشركات، على الرغم من استمرار إطار 2024/825 في التصدي للممارسات التضليلية العامة، وتواصل لجنة التجارة الفدرالية FTC بالولايات المتحدة الامريكية الاعتماد على “أدلة التسويق الأخضر Green Guides بوصفها مرشدًا تنظيميًا لتطبيق مبادئ “الحقيقة في الإعلان” على الادعاءات البيئية، مع توضيح كيفية استخدام صيغ مثل قابل لإعادة التدوير وقابل للتحلل وخالي من… وغير ذلك. أما في المملكة المتحدة، فقد أطلقت هيئة المنافسة والأسواق (CMA) مدونة الادعاءات الخضراء” Green Claims Code عام 2021، وتتضمن ستة مبادئ تشغيلية تحدد معايير الصدق والدقة والقابلية للتحقق وعدم الإيهام وتغطية دورة الحياة. كما شرعت الهيئة في تحقيقات قطاعية لا سيما في قطاع الأزياء حيث أفضت إلى تعهد شركات بارزة بتحسين دقة الإفصاح وتقييد اللغة التسويقية المضللة. هذا التطور يجمع بين الإرشاد العام والإنفاذ الانتقائي لتحسين الجودة المعلوماتية في السوق. أما في أستراليا، جاء موقف ACCC متشددًا عقب نتائج المسح التي أظهرت ارتفاع نسبة الادعاءات المقلقة؛ فأصدرت مسودات توجيهية (أنت أخضر؟ إذن أثبِت ذلك) مع نية الدفع نحو إنفاذ أوسع وتحديد حالات الانتهاك في سياقات تسويقية متعددة. على صعيد موازٍ، شهدت الساحة الأسترالية نقاشًا واسعًا حول اعتماد بعض برامج العلامات الحياد الكربوني القائمة على التعويضات، وإشكالات الثقة العامة المرتبطة بها. أما على مستوى المعايير الدولية، اكتسب المعيار ISO 14068-1:2023 زخمًا بوصفه إطارًا يرسم مبادئ ومتطلبات وإرشادات لتحقيق وإظهار “الحياد الكربوني”، مع خطة واضحة تُقدّم الخفض الفعلي للانبعاثات داخل سلسلة القيمة على التعويضات، وتؤكد توثيق الادعاءات والتحقق المستقل. ويُستخدم المعيار على نطاق متزايد من جهات الاعتماد وشركات الفحص المستقلة ضمن سعي الأسواق العالمية إلى مرجعية موحدة يمكن الاستناد اليها. ورغم اتساع اعتماده، يتواصل النقاش النقدي حول حدود استخدامه للتعويضات، وكيفية اتساقه مع مبدأ صافي الانبعاثات الصفري.
أخيرًا، أقرّت كاليفورنيا في أكتوبر2023 قانون AB 1305 الخاص بالإفصاح في أسواق الكربون الطوعية، ملزمةً كيانات التسويق/البيع والشراء/الاستخدام بالإفصاح العلني على المواقع الإلكترونية عن تفاصيل المشروع التعويضي وآليات المساءلة عند التعثر، مع نظام جزاءات مالية يومية. هذا القانون إلى جانب SB 253 وSB 261— والخاصة بالزام الشركات في كاليفورنيا بالإفصاح عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في النطاقين 1،2 بنهاية عام 2026 والنطاقات الثلاثة بنهاية عام 2027 . وبهذا فان هذه القوانين ترفع سقف الشفافية ويضيّق هامش الادعاءات الفضفاضة مثل “صافي صفري” و“حياد كربوني” إذا لم تُدعَم بالبيانات والمراجع. وبهذا يستلزم الوصول إلى بعض المعايير التي يمكن من خلالها التحقق من ادعاءات الشركات ومدى صحتها ويعتمد ذلك على مجموعة من العناصر:
منهجيات التحقق من الادعاءات:
تدل الخبرة العملية والمعيارية على أن الانتقال من ادعاء بيئي إلى حقيقة قابلة للتدقيق يتطلب مجموعة من العناصر التي يمكن من خلالها قياس مدى صحة الادعاءات والإفصاح عن ممارسات الشركة، ويعد من أول هذه العناصر هو تبنّي تعريفات تشغيلية دقيقة لمجموعة المصطلحات الأكثر شيوعًا في التسويق مثل قابل لإعادة التدوير، قابل للتحلل، خالي من…، حياد كربوني، صافي صفر انبعاث، محتوى معاد تدويره. ويقتضي ذلك الرجوع إلى أطر رسمية مثل FTC Green Guides وتوجيهات الاتحاد الأوروبي والالتزام بمعايير الإفصاح عن الانبعاثات الكربونية التي تحدد التوقعات الدنيا لإيضاح مثل هذه المصطلحات. كما يتعيّن الالتزام بمعايير ISO 14068-1 ان أمكن في ما يخص متطلبات الحياد الكربوني، لتفادي تحويل التعويضات إلى بديلٍ عن التخفيض الفعلي داخل سلسلة القيمة. بالاضافة استقلالية التحقق التي تمثل العنصر الثاني من عناصر التحقق من الادعاءات. فالاستعانة بجهات تحقق طرف ثالث معتمدة وفق برامج اعتماد وطنية أو دولية يقلِّل مخاطر تضارب المصالح، ويمنح المستهلك والجهات الرقابية قدرة أفضل على اختبار صحة الادعاءات.مثلا في أوروبا، كان الاعتماد على Green Claims Directive لفرض التحقق المستقل إلزامًا، لكن تعليق مسارها التشريعي أعاد الأهمية إلى منظومة 2024/825 واللوائح الأخرى لتضييق مساحة الادعاءات المضللة عبر بوابات أخرى في القانون الأوروبي للمستهلك.
أما العنصر الثالث من عناصر التحقق هو مدى شفافية البيانات. فالقوانين مثل AB 1305 بكاليفورنيا يفرض إتاحة معلومات المشروع التعويضي وقابلية تتبعه علنًا، مع التفصيل في المنهجيات والمعايير والافتراضات وبعض المخاطر المتعلقة بها بما يسمح للمستهلك والباحث والجهة التنظيمية بالتحقق من الادعاء. وبهذا ترتقي الشفافية من تقنية إفصاح إلى أداة حوكمة اقتصادية تحد من المنافسة غير العادلة المبنية على زخرفة بيئية فارغة. ومن العناصر الهامة أيضا في عملية متابعة التحقق من الادعاءات هو التحقق من تغطية الشركة دورة حياة المنتج بالكامل وعدم تجزئة العملية الإنتاجية وعدم الإفصاح عن بعض العمليات الإنتاجية وتجاهل العمليات الأخرى، وفي هذا السياق تؤكد المملكة العربية السعودية من خلال لوائحها التنظيمية والتشريعية في المجال البيئي أنه لا يجوز تجزئة العملية الإنتاجية أو الإفصاح عن بعض العمليات واغفال الجوانب الأخرى أو اغفال باقي العمليات الإنتاجية وتحول المسئولين في المجال البيئي الخاص بالجهة المتحايلة وكذلك أصحاب المصانع الى المساءلة القانونية حيث يعد ذلك تحايلا غير مقبول، حيث تُعدّ الادعاءات التي تركّز على جزء من المنتج (مثل التغليف) وتتجاهل الأثر الإنتاجي أو اللوجستي أو مرحلة الاستخدام من أكثر أنماط الغسل الأخضر شيوعًا. لذلك تؤكد كثير من جهات اتخاذ القرار على الصورة الكاملة وتحذر الشركات من انتقاء مرحلي يؤدي إلى تضليل غير مباشر.
الآثار الاقتصادية والأخلاقية للغسل الأخضر
يخلق الغسيل الأخضر تحيزًا كبيرا من منظور اقتصادي مؤسسي في المنافسة لصالح من يجيد التحايل على حساب من يستثمر في تخفيضات فعلية للأثر البيئي الناتج عن نشاطه. فالشركة التي تبني نموذجًا تسويقيًا على شعارات عامة أو ملصقات غير مُتحقَّق منها قد تنتزع حصة سوقية من منافس يتكبد كلفة التحول الحقيقي في الطاقة أو المواد أو سلاسل التوريد. وفي المدى المتوسط، يؤدي هذا الانحراف إلى تشويه عملية التسعير إذ يحصل المنتج الأعلى أثرًا على ميزة سعرية نسبية، لأن الكلفة البيئية مخفية أو مُغطّاة بادعاء غير مكلف. ومن ثمّ تتباطأ وتيرة الابتكار الأخضر حين لا تُكافَأ التحسينات الحقيقية في السوق، وهو ما يتناقض مع أهداف السياسة الصناعية الخضراء في الاقتصادات المتقدمة والناشئة معًا. تدعم شواهد OECD هذا القلق عبر إبراز “الأضرار” التي تلحق بثقة المستهلك وكفاءة الأسواق نتيجة الادعاءات غير المثبتة.
أما من الناحية الأخلاقية فيثير الغسل الأخضر سؤالًا حول شرعية المؤسسة هل تستخدم الشركات لغة الاستدامة كقشرة رمزية تستبطن حيلًا لغوية تُخفي الأثر الحقيقي؟ إن نظرية شرعية المؤسسة تفترض أن المؤسسة تسعى إلى اتساق صورتها مع توقعات المجتمع، ولكن عندما يصبح الادعاء منفصلًا عن الأداء، تنشأ فجوة ثقة تُعرِّض المؤسسة إلى جزاءات تنظيمية وقانونية وسمعية. حيث أن هذه الفجوة ليست مجرد مسألة اتصالات وعلاقات عامة واعلانات فحسب؛ بل هي مشكلة حوكمة ومساءلة. ففي بيئات قضائية ناضجة، يتحوّل الادعاء إلى التزام قابل للتنفيذ بموجب قوانين حماية المستهلك والدعاية، كما هو الحال في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وأستراليا وكذلك في كثير من الدول العربية تشريعيا الا أن الأزمة في عالمنا العربي هي أزمة تنفيذية وليست تشريعية.
الخاتمة
مما سبق تبين أن الغسل الأخضر ليس مجرد انحراف اتصالي فحسب؛ بل هو ظاهرة سوقية مركّبة تؤثر في المنافسة والابتكار وثقة المستهلك، وتعرقل التحول المنشود نحو اقتصاد منخفض الكربون حيث تتفق الأدلة من الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي المصري والقوانين البيئية المعمول بها في الدول العربية وICPEN وACCC وOECD لتؤكد أن نسبة معتبرة من الادعاءات البيئية تظل مبهمة أو غير موثقة أو مضخّمة. وقد اتخذت المنظومات القانونية خطوات مهمة مثل تبنّى الاتحاد الأوروبي إطار 2024/825، واعتماد الولايات المتحدة الأمريكية أدلة FTC كمرشد إنفاذي، وأطلقت المملكة المتحدة مدونة ادعاءات خضراء تُفعَّل بآليات رقابية، فيما صعّدت أستراليا الإنفاذ والتوجيه. غير أن التعليق المؤقت لمسار Green Claims Directive في 2025 يذكّر بأن التشريع البيئي يحتاج إلى توازن دقيق بين حماية السوق وتقليل العبء على المؤسسات الصغيرة.
ومن هنا يوصي المقال بأن تُسنَد الادعاءات البيئية إلى معايير قياس وتحقيق مستقلة، وأن تتبنّى الشركات شفافية دورة الحياة بدل انتقاء الجوانب اللامعة ذات الأثر البيئي المنخفض وتجاهل باقي العملية الإنتاجية، وأن تُترجم الشعارات إلى تقدم كمي قابِل للمراجعة. كما يدعو صانعي السياسات إلى انفاذ التشريعات والقوانين والاتفاقيات واللوائح لردع التضليل من خلال بناء سلم إنفاذ تدريجي يبدأ بالإرشاد والإنذار، ويمرّ بمقتضيات الإفصاح والشفافية التقنية، وينتهي بإجراءات ردعية في الحالات الجسيمة، واستكمالها بلوائح ومعايير دولية مثل ISO 14068-1، لضمان أن يصبح الحديث عن الحياد والاستدامة جزءًا من عقد اجتماعي معلوماتي يربط الادعاء بالدليل، ويكافئ الأداء الحقيقي، أما على مستوى الشركات فيجب تصميم نظام داخلي يربط كل ادعاء بمرجعيته من دراسات دورة حياة أو بيانات طرف ثالث أو تقارير يقين إحصائي، وآلية مراجعة قانونية وتسويقية مشتركة تمنع استخدام الادعاءات بدون مرجعية علمية ودلائل مستندية.
المراجع
• European Commission, “Green claims
https://environment.ec.europa.eu/topics/circular-economy/green-claims_en?utm_source
• European Parliament Research Service, ‘Green claims’ directive – Substantiating and communicating environmental claims, 2023.
https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/BRIE/2023/753958/EPRS_BRI%282023%29753958_EN.pdf?utm_source
• Directive (EU) 2024/825 (Official Journal, 6 March 2024):
https://eur-lex.europa.eu/eli/dir/2024/825/oj/eng?utm_source
• Council of the EU: “Empowering consumers for more sustainable choices.” https://www.consilium.europa.eu/en/policies/green-claims-empowering-consumers-for-more-sustainable-choices/?utm_source
• EU hits pause on anti-greenwashing bill as far-right influence grows | AP News
• FTC Green Guides: https://www.ftc.gov/news-events/topics/truth-advertising/green-guides?utm_source
• ACCC:https://www.accc.gov.au/media-release/accc-greenwashing-internet-sweep-unearths-widespread-concerning-claims?utm_source
• OECD: Protecting and empowering consumers in the green transition (2025) https://www.accc.gov.au/media-release/accc-greenwashing-internet-sweep-unearths-widespread-concerning-claims?utm_source
• ICPEN: https://www.gov.uk/government/news/global-sweep-finds-40-of-firms-green-claims-could-be-misleading?utm_source
• ISO 14068-1:2023: https://www.iso.org/standard/43279.html?utm_source
• California AB 1305https://www.mofo.com/resources/insights/240909-prepare-to-disclose-california-legislature-declines?utm_source
• COP27: Delivering for people and the planet | United Nations