مشاهير التواصل الاجتماعي: بين أخطاء فردية وتحولات أعمق في مفهوم الشهرة
بقلم دكتور خالد سعيد النقبي
رئيس الاتحاد العربي للتدريب والتعليم الموازي عضو ملتقى الاتحادات النوعية المتخصصه
قراءه واقعيه ل..
كيف غيّرت المنصات الرقمية ملامح النجاح، وصنعت جيلاً يقيس قيمته بعدّاد الإعجابات؟
في زمنٍ كان النجاح فيه يُقاس بما تتركه من أثر عميق أو إنجاز ملموس، حلّت علينا مرحلة جديدة لا تحتاج فيها إلى أكثر من هاتف ذكي، وزاوية تصوير مناسبة، وفكرة قادرة على إثارة فضول الجمهور – أو غضبه.
لم تعد الشهرة اليوم رحلة طويلة تتطلب الصبر والعمل الدؤوب، بل أصبحت أشبه بومضة ضوء؛ تظهر فجأة، وتخطف الأبصار، ثم إما أن تخبو سريعاً أو تُستثمر لتبقى.
لكن وراء هذه الومضة عالم كامل من التحولات الثقافية والاجتماعية، حيث تتشكل معايير جديدة للنجاح، ويعاد تعريف ما يستحق الاحتفاء، وما يكفي ليضع صاحبه في دائرة الضوء.
هذا المقال لا يكتفي بملاحقة قصص المخالفات الفردية التي يرتكبها بعض مشاهير المنصات، بل يحاول أن يغوص أعمق في البنية التي أفرزت هذه الظاهرة، ليكشف كيف تتسلل الثقافة الرقمية إلى عقول الأجيال، وتعيد تشكيل فهمنا الجماعي لمعنى الشهرة وقيمتها.
1. منابر رقمية تصنع النجوم على عجل
المنصات الاجتماعية اليوم أشبه بمصانع سريعة الإنتاج؛ تمنح المكافأة الفورية لكل من يحافظ على حضوره المستمر، وتدفعه إلى ضخ محتوى متواصل يحفّز الإعجاب والتعليق والمشاركة. في هذه البيئة، يمكن أن تتحول فكرة بسيطة أو لقطة عفوية إلى حدث يتابعه الملايين، دون أن يكون هناك شرط للإنجاز أو الخبرة.
وراء هذه الظاهرة اقتصاد ضخم يقوم على الإعلانات والرعايات والعقود، ما جعل الشهرة وسيلة للكسب قبل أن تكون دليلاً على التفوق أو الموهبة.
2. الجدل كعملة رائجة
كثير من الانتقادات الموجهة لمشاهير المنصات تتعلق بتجاوزات أخلاقية أو قانونية أو إساءات للمجتمع والمعتقدات. لكن المشكلة الأعمق أن هذه التجاوزات تجد دائماً جمهوراً يتفاعل معها، ما يرسخ منطق السوق الرقمي الذي يكافئ الإثارة على حساب المعنى.
هنا، يصبح “الأعلى صوتاً” هو الأكثر حضوراً، وتغدو الحدود بين الجرأة والابتذال ضبابية، خاصة حين يتحول الخلاف أو الاستفزاز إلى وسيلة لزيادة عدد المتابعين.
3. إعادة تعريف النجاح في عيون الأجيال
السرعة فوق الجودة: النجاح يقاس بقدرة المحتوى على الانتشار السريع، لا بمدى استدامته أو أثره الحقيقي.
العدد قبل القيمة: الشهرة تُحسب بعدد المتابعين وحجم العائدات، أكثر مما تُحسب بخدمة الناس أو الإبداع الأصيل.
انكشاف الخصوصية: تفاصيل الحياة الشخصية تُعرض للجمهور كجزء من العلامة التجارية للشخص، ما يضعف الحدود التقليدية بين العام والخاص.
التقييم اللحظي: مكانة الفرد تتحدد وفق مؤشرات آنية كالتعليقات والمشاهدات، ما يخلق نموذجاً غير مستقر لتصورات النجاح لدى الشباب.
خاتمة
ما نشهده اليوم ليس مجرد تغير في أدوات التواصل، بل تحوّل ثقافي يعيد رسم علاقة الفرد بالمجتمع، ويؤثر في الطريقة التي نرى بها أنفسنا والآخرين. النقد هنا ليس دعوة إلى رفض التكنولوجيا أو محاربة حرية التعبير، بل محاولة لإعادة التوازن بين وهج الظهور وقيمة الجوهر، وبين سرعة الوصول وعمق الأثر.
فالمسؤولية مشتركة: على المشاهير أن يدركوا ثقل ما يقدمونه كنماذج للأجيال، وعلى الجمهور أن يعيد التفكير في المعايير التي تمنح التصفيق أو تتجاهله.
واخيرا
من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن القول إن منصات التواصل لا تكتفي بعرض المحتوى، بل تعيد برمجة آليات التقدير الذاتي لدى الأفراد، خصوصاً المراهقين والشباب. فالمتابعات، والإعجابات، وعدّاد المشاهدات تتحول إلى مؤشرات للهوية الشخصية وقيمتها، ما يجعل الفرد أسيراً لدورة دائمة من البحث عن القبول والتفاعل.
هذا النمط من الارتباط النفسي بالمؤشرات الرقمية يعزز ما يسميه علماء السلوك بـ”التحفيز المتقطع”، حيث يصبح الدماغ مهيأً للشعور بالمكافأة مع كل إشعار أو زيادة في عدد المتابعين، على غرار الإدمان السلوكي. ومع الوقت، تتشكل لدى الجيل الناشئ صورة ذهنية مشوشة عن النجاح: نجاح يقاس بضجيج اللحظة، لا بعمق الأثر أو أصالة الإنجاز.
ومن هنا، فإن مواجهة هذا التحول لا تقوم على المنع أو الرفض، بل على تعزيز مهارات التفكير النقدي، وتربية الذائقة على التمييز بين القيمة الحقيقية والمحتوى العابر، حتى يصبح وعي الجيل الجديد قادراً على استهلاك التكنولوجيا دون أن يبتلعه بريقها.