الفصول الأربعة في مهب التغيرات المناخية: هل حان وقت الفعل قبل فوات الأوان؟
الوزير الاستاذ الدكتور مصطفى حسين كامل ـ مدير المركز الاقليمي للتدريب ونقل التكنولوجيا للدول العربية التابع لاتفاقية بازل ووزير البيئة المصري الاسبق
لطالما كانت الفصول الأربعة التي اعتدنا على تتابعها وانتظامها تمثل توازناً طبيعياً، نُنسق حياتنا من خلالها. ولكن مع تصاعد وتيرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ، بدأنا نشهد تغيرات جذرية في هذا التوازن الطبيعي. أصبح الشتاء أقصر وأقل برودة، وصيفنا أطول وأشد حرارة، وأحيانا يختفي الخريف والربيع أو يتداخلان بشكل غير طبيعي. فهل فقدنا فعلاً توازن الأرض؟ وهل نحن، في المنطقة العربية، مستعدون لمواجهة هذه التحولات التي تهدد حياتنا؟
اختلال الفصول: هل هو مجرد ظاهرة أم أزمة؟
لطالما كانت الفصول بمثابة مؤشر لانتظام الحياة على كوكب الأرض، تترابط فيها الحركات البيئية، وتتكامل مع الأنماط الحيوية والنباتية وحتى سلوك البشر. ولكن في السنوات الأخيرة، بدأنا نلاحظ تغيرات حادة: شتاء دافئ بلا ثلج، وصيف لا يُطاق، وربيع يتلاشى سريعاً ليُفسح المجال لحرارة شديدة. وهذه التغيرات ليست مجرد مصادفة، بل هي نتيجة لظاهرة التغيرات المناخية العالمية، التي هي بدورها ناتجة عن الأنشطة البشرية الضارة مثل الانبعاثات الكربونية من الصناعة والزراعة والنقل.
هل التغيرات المناخية مجرد تقارير علمية أم واقع يهدد حياتنا؟
وفقاً للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، تشير الدراسات إلى أن:
درجة حرارة الأرض ارتفعت بمعدل 1.2 درجة مئوية منذ بداية الثورة الصناعية، وهو ما أدى إلى تغيرات في توقيت الفصول وظهور ظواهر مناخية متطرفة.
الصيف أصبح أطول وأكثر حرارة، وهو ما يسبب زيادة في موجات الحر والحرائق.
الشتاء أصبح أقصر، ما يضر بالنظام البيئي النباتي والحيواني.
الخريف والربيع فقدا تموضعهما الزمني، فبعض المناطق لا تشهد الانتقال التدريجي بين الفصول كما كان معتاداً.
لكن الأخطر من كل ذلك هو أن هذه التغيرات لا تقتصر فقط على البيئة. بل تمتد آثارها لتطال حياتنا الاجتماعية والاقتصادية. تغيُّر المواسم بشكل غير مسبوق يعني اختلال الدورة البيئية التي اعتمدنا عليها على مر العصور.
نقد السياسات البيئية الحالية: أين نحن من الحلول؟
من المؤسف أن العديد من الحكومات العربية لا تعير التغيرات المناخية الاهتمام الكافي، بل إن السياسات البيئية في بعض الدول تشهد تراجعًا غير مبرر. فبينما تتزايد الآثار السلبية لهذه التغيرات على الحياة اليومية، يبدو أن هناك ترددًا في تبني سياسات طويلة المدى لمواجهة هذه الأزمة. إن اعتماد بعض الحكومات على حلول مؤقتة مثل بناء سدود أو مشروعات لتقليل الفيضانات دون النظر إلى جذور المشكلة، مثل الانبعاثات الكربونية أو تدهور الأنظمة البيئية، هو بمثابة إطفاء للنار بالزيت.
ففي حين أن بعض الدول العربية بدأت تلتفت إلى أهمية التعاون الدولي في محاربة التغير المناخي، إلا أن الإجراءات المحلية تظل غالبًا غير كافية أو متفرقة. كل ذلك في وقت نجد فيه أن آثار التغير المناخي تتفاقم، ولا يمكننا الاستمرار في إخفاء رؤوسنا في الرمال.
المنطقة العربية: التغيرات المناخية تُهدد وجودها
المنطقة العربية، بخصائصها الجغرافية والمناخية، تعد من أكثر المناطق التي ستعاني من هذه التغيرات. نحن نشهد مناخاً لا يرحم:
الصيف في الخليج العربي أصبح مميتاً، حيث تتجاوز درجات الحرارة في بعض البلدان مثل السعودية والكويت حاجز الـ50 درجة مئوية.
الشتاء في بعض الدول العربية أصبح متقلباً، مع حدوث فيضانات مفاجئة في مناطق مثل لبنان وليبيا نتيجة الأمطار الغزيرة، بينما تعاني دول أخرى مثل السودان واليمن من الجفاف المستمر، ما يهدد الزراعة والأمن الغذائي.
مخزون المياه في المنطقة بدأ يتقلص بشكل حاد، فارتفاع درجات حرارة البحار المجاورة، وتغير التيارات الهوائية، بالإضافة إلى ندرة الأمطار، أصبح يشكل تهديدًا حقيقياً للموارد المائية. وقد تشير التوقعات إلى فقدان حتى 20% من الموارد المائية في المنطقة بحلول عام 2050 إن استمر الوضع على ما هو عليه.
هل يمكن الحفاظ على الزراعة والمياه في منطقة تتآكل فيها الموارد؟
في ظل اختلال مواعيد الفصول، أصبح من المستحيل تقريباً الاعتماد على الزراعة الموسمية كما اعتدنا. تداعيات التغير المناخي على الزراعة بدأت تظهر بوضوح من خلال:
قلّة المحاصيل وانخفاض جودتها.
ضغط إضافي على الموارد المائية، في منطقة تُعد من بين الأكثر فقرًا في المياه على مستوى العالم.
إذا استمر هذا الاتجاه، فقد نجد أنفسنا في أزمة غذائية ومائية كارثية. من خلال هذا التدهور البيئي، نحن على مشارف نقطة اللاعودة، وإذا لم نتحرك عاجلاً، ستزداد الفجوة بين ما نحتاجه وما يمكننا الحصول عليه.
الطريق إلى الحل: هل من أمل؟
الوقت ليس متأخراً، لكننا بحاجة إلى إجراءات عاجلة وفعالة. الدول العربية يمكنها أن تبدأ باتخاذ خطوات جادة في سبيل التقليل من تداعيات هذه الأزمة:
1. الاستثمار في الطاقة المتجددة للحد من الانبعاثات الكربونية.
2. إدارة الموارد المائية بشكل أفضل، من خلال تقنيات تحلية المياه، إعادة تدوير المياه، وتطبيق تقنيات الري الذكي.
3. دعم المزارعين، عبر تزويدهم بالتقنيات الزراعية المناسبة التي تحسن إنتاجهم وتحميهم من التغيرات المناخية.
4. إدراج قضايا المناخ في السياسات الاقتصادية والتعليمية على مستوى الحكومات والمجتمعات.
ولكن لا ينبغي أن تقتصر المسؤولية على الحكومات فقط. المناخ هو مسؤولية جماعية، حيث أن الأفراد والشركات والمنظمات المدنية يجب أن يشاركوا بشكل فاعل في إيجاد الحلول. فإذا استمررنا في أسلوب حياتنا الملوث والمستهلك للطاقة والموارد الطبيعية، فلن تكون هناك سياسات كافية لمواجهة هذه الأزمة.
الدعوة للتفكير خارج الأطر التقليدية
إن استراتيجيات مواجهة التغيرات المناخية التقليدية قد تكون قديمة ومتخلفة بالنسبة للمشكلة الحقيقية التي نواجهها. الحلول التي فكرنا بها في القرن الماضي لم تعد صالحة لهذا العصر الجديد. علينا التفكير خارج الأطر التقليدية، وتطبيق حلول مبتكرة تعتمد على التكنولوجيات الحديثة مثل الزراعة العمودية، تقنيات التنقية المتقدمة للمياه، وحلول الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بتغيرات الطقس وتنظيم الموارد الطبيعية.
دعوة للمشاركة المجتمعية والوعي الشعبي
في هذا السياق، لا يمكن أن تقتصر المسؤولية على الحكومات فقط، بل يجب أن يكون هناك جهد شعبي شامل للتوعية بأهمية الحفاظ على البيئة. المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية يلعبان دورًا أساسيًا في تعبئة الجماهير وتقديم حلول عملية. هذا الوعي الشعبي لا بد أن يتحول إلى حركة مجتمعية حقيقية تدفع الحكومات والشركات الكبرى للعمل على حماية كوكبنا.
خاتمة: هل نُعيد توازن الأرض أم نخسره للأبد؟
اليوم نحن أمام مفترق طرق حاسم. الفصول الأربعة التي نشهدها لم تعد مرآة للتوازن البيئي كما كانت في الماضي. نحن على شفا مرحلة جديدة، مرحلة قد تكون بداية النهاية لهذا التوازن، أو فرصة لإعادة تصحيحه. لا يمكن للمناخ أن ينتظر أكثر. يجب أن تكون قضايا البيئة على رأس أولوياتنا، وعلى كل فرد في هذا العالم أن يسهم في حماية هذا الكوكب. اليوم، لم يعد لدينا رفاهية الوقت. لقد حان الوقت للتحرك، قبل أن نخسر الأرض التي نعيش عليها.